حسين حمزة
جدلية الدلالة في ريش البحر
يشغل البحر حيّزًا نصيًّا في ديوان "ريش البحر" لشاعر سلمان مصالحة. يبرز ذلك في دفتي الديوان. يتطلب البحث عن دلالات العنوان تتبّع الدلالات المحتملة في اقتران لفظتي الريش والبحر، ومن ثم تبين العلاقة لتي تربط العنوان بمحور النص الذي أعتقد أنه يدور حول ثنائية الحضور في جدلية تتقاطع بين وجودها واغترابها، حيث ينفتح النص على دلالتين الأولى مسطحة والثانية عميقة.
تحيل دلالة الريش أولا إلى الطيران، أي إلى تجسيد الحركة، لكن الشاعر يزيح دلالة الحركة ليحول دلالة لفظة الريش إلى دلالة الكفن كغطاء يغلف الأشياء، وبمعنى آخر إلى القطب الآخر من جدلية التقابل، إلى جدلية السكون والصمت:
"لنجم أحيانًا، وحين يعود
بالذكرى إلى بابه، يلفّ
القلب باريش، وينف في من روحه" (ص 19)
امتدادا لهذه الثنائية تتقابل لفظة "النجم" مع لفظة "القلب" باعتبار النجم ممثلا للعلوي لى حين أن القلب يمثل السفلي، أو المدار الحميمي في الذات. كما إن دلالة العودة في الفعل "يعود" يدل على الرجوع إلى أصل الفعل - الذكرى - باعتيارها ماضيا في الحاضر، وحاضرا في الماضي، حيث أن كثيرا ما يعيش الماضي في الحاضر مسيطرا عليه، ومن ثم "ينفخ فيه من روحه" دلالة على لحركة والحياة بعد طقس الموت.
يكمن تنويع آخر لدلالة الريش في دلالة لمرجع أو الملجأ وهذا ما يفارق دللة الريش لكونه غلافا يحيط الجسد، قد يحميه إلا أنه يبقي القشرة الخارجية. وما يقوم به الشاعر هوتبئير الدلالة في جعل الريش أصلا ورجعا للنفس الإنسانية تستطيع أن يمنح الدفء للذات.
"ما لذي تحمله في مناقيرها؟
رحلة للجنوب هناك تردّ
إلى ريشها نفسها الصابرة" (ص 27)
يتحول الريش إلى فعل خلق وتغيير، إذ أن الشاعر يخلق في نصّه الشعري حالة يقلب فيها منطق لأشياء التي تتواشج أحيانا مع لمخزون الدلالي للثقافة العربية ولمنها تنزاح في محاولة الشاعر تقديم رؤيته حول اغتراب الذات.
"لدي الليل عند الخطايا مشاعل
فلا يترك الله عبدا له ريش طير
نما في لسانه، ولم تمتلكه
الرياح سوى في احتزانه" (ص 37)
يخاطب الشاعر الأنثى آنفا ويطلب منها أن تلد وفعل الولادة يحيل إلى الإشراق والإيجابية إلاّ أن المولود يدل على السلبية والظلام كما تتقبلها اللغة المعيارية. يأتي بعد ذلك فعل الأمر الطلبي "لدي" ثنائية تؤكد لعلاقة التي تربط الحركة الأولى من السطر الشعري "لدي الليل" وهي "عند الخطايا مشاعل؛. فالخطايا إحالة إلى السلبية أما المشاعل في إحالة إلى الإيجابية، أي النور، ونلاحظ القلب المكاني في تراتبية حركة لسطر لشعري، حيث يبدأ بفعل الولادة وينتهي بالنور/المشاعل. أي أن الليل والخطايا محصوران في الدلالة الإيجابية. هذا ما يؤكده توالي الأسطر الشعرية حيث السطر الثاني يبدأه الشاعر بلنفي لتأكيد إيجابية الفعل "فا يترك"، كما إن نمو الريش على اللسان يعتبر مزاوجة بين فعل الحركة وفعل الكلام كفعل تيير يشتركان في تثوير النص وتقاطبه من حرك الصمت إلى حركة الصوت. كذلك تنعكس هذه بين الفل الإرادي الناتج عن فعل الأمر "لدي" مقابلا للفعل غير الررادي المحال إلى المقدس.
تمتد جدلية الدلالة أيضا بين البحر والريش، حيث أن البحر حيز مكاني يرمز إلى البيئة الرحمية الحميمة في الاحتضان والولادة أما الريش فهو يحمل دلالة جنسية "بقع من ريش".
"عند الريح حكايا عن أعماق
البحر الرطبة، بللها دمع من لون
عيون الأسماك. بقع من
ريش عصافير احتقنت في خديك
المصفوعين. لا تملك تذكرة لتحلّق في
أجنحة النسر. لا تملك كنديلا
لتنشّف عرق البحر" (ص 53).
نلاحظ أن دلالة الريش تنتقل إلى الدلالة اللونية خلافا لما دلت عليه سابقا من دلالة آلية فعلية وتنعكس جدلية الدلالة بين أعماق البحر وبين فعل التحليق، أي بين العلوي والسفلي بحيث أن أسلوب النفي لا تملك تذكرة"، "ل تملك نذلا"، يؤكد انتصار الحكايا باعتبارها تاريخا وذاكرة لا يستطيع الانسان منه فكاكا. تؤكد هذه الثنائية البحر/الأعماق والتحليق/السماء أهمية البحر في النص.
"هلمّوا إلى البحر، في البحر ليل تعثر
وهبّوا ازرعوا في يديه قناديل
زيت، تغطت فروع الدوالي
قطوفا، فليلة أخضر" (ص 56)
يصبح البحر مرجعا أصيلا يشكل الليل فيه حجر عثرة لتكون قناديل الزيت معادلا موازيا لضبابية الليل، ،ذلك حتي يحوله إلى ليل أخضر زي فعل للولادة. مرة أخرى يحصر الشاعر الليل في مدارية النص بين فعل الأمر "هلموا إلى البحر" مخاطبا المجموع ليدل على الولادة وبين دللة اللون اأخضر كإحالة إلى الولادة من جديد. قد تكون هذه الولادة رغم العقبات بداية لمستقبل جديد للذاكرة الجماعية مثلما وظف ضمير الجمع، ثم تبعه بوصف الطفلة الغزية:
"الطفلة من غزة تبني أعشاشا
من ريش البحر، والواقف خلف
السور يخبئ في عينيه قلادة
كم ورق التذكار" (ص 56-57)
تتجلى دلالة الأعشاش كنتيجة لاقران لفظتي الريش والبحر حيث يرمز البحر إلى ماء الحياة أما الريش فيرمز إلى تجسيد الرغبة في الولادة ومن ثم فالعش على صغره يتحول إلى حلم طفلة زية تبنيه في حيز جغرافي صغير لتمنحه بعدا جغرافيا كبيرا كعمق البحر باعتباره عشا رحميا، بالإضافة لى أن الريش يعتبر أحد مكونات العش، وهو يعكس الأنموذج الأول للحياة. تنعكس هذه الجدلية في تقابل لفظتي لطفلة والواقف، رذ أن الطفلة ترمز إلى الغد والمستقبل لذلك فهي معرفة لتحديد المكان أما الواقف خلف السور فه نكرة ويمثل الجيل الماضي الحاضر، لا يملك إلا ورق التذكار والذاكرة. أما لفظة "قلادة" فتحيل إلى القيد ومن ثم فقد تكون الذكرى سجنا يأسر الواقف خلف السور مثلما هو مسجون خلف السور كعائق للتقدم بناء الغد. تتجلى أيضا دلية الدلالة بين الفعلين "تبني" و"يخبئ" ففعل البناء هو فعل إبراز وظهور أما فعل التخبئة فهو فعل انطوائي ذاتي، يفتقد المبادرة والجرأة في تلمس المستقبل.
تتعدد دلالة البحر أيضا عندما يصبح خالقا للشعر وموجدا له:
"في الموج أشعار طواها البحر في
الشطآن طي الفجر للنسيان حين
يفتّح القمر. في الموج أشعار بلا
شفتين كالذكرى اذا احترقت
كلون الماء، ليس يشوبه زيد" (ص 67)
فالشعر هو الجوهر كلون الماء أما الزبد فيذهب جفاء، إنه كاريش لا وزن ولا قيمة له على حين ان الذكرى التي تختزل الذاكرة الماضوية يحتفظ بها البحر كركز للخصوبة والولادة. يقابل الشاعر بين البحر وبين الصحراء في ديوانه رذ نجد ألفاظا تنتمي إلى الصحراء بمفهومها الحضاري الشامل، أي تلك التي تحيل إلى التراث العربي القديم فمنها ما يحيل إلى القرآن الكريم مثل "رياح السموم" ومنها ما يحيل إلى الشعر القديم كشعر الخنساء "قذى بعينها أم بالعين عوار" وقول المنل اليشكري "وتحبه ويحبها" إلخ... مما يجعل الديوان يتناص مع مصادر التراث العربي. لذلك نجد دلية أخرى يحتلها العنوان وصفحته الأخيرة كإحالة إلى البحر ويثبتها المتن كإحالة إلى الصحراء، مما يدل على أن ثمة صراعا بين البحر والصحراء لى محور آخر، إذ قد يرمز ريش البحر إلى الزبد أو إلى المظاهر رذ احتل العنوان وفضاء النص الخارجي، بينما تحيل الصحراء في المتن إلى جوهر تراث الشاعر، وهو يعبر عن هذه الجدلية من الصراع في نبرة تشاؤمية تؤكد اغترابه عن المكان، رذ يجعله مجهولا. وهنا تكمن التناقضية في اختلاف البحر والصحراء من جهة وفي تشابههما بالحتواء وإخفاء ومحو المعالم من جهة أخرى.
"هناك ينتحي الشاعر
جانبا. يرتدي السكينة
ينزرع في الطريق التي تفضي
إلى لا مكان. ينزع معطفه
يضرم به النار ليتدفا بالعراء
فتمر الزشجار أمامه
لا تلقي عليه تحية" (ص 15)
تستمر جدلية الفعل أو اللافعل أو جدلية الحضور في التقابل بين فعل الثبات/الصمت كما يعكسه الفعل "ينتحي" "ينزرع" الذي مثل الشاعر وبين فعل الحركة الذي مثل الأشجار، كذلك بين تضادية النار والعراء أو تضادية الصحراء والبحر.
*
نشر: أسبوعية "فصل المقال"، 10 نوفمبر 1999
***