فيليتسيا لانغر ||
أنا عربي
تُهتُ أكثر من مرّة في خفايا الذكريات. ولكم أدهشتني طبيعتها الناقدة والمتفحّصة وقدرتها المتميّزة في الاحتفاظ بكلّ ما يُسجّل على لوحتها. أحاول أحيانًا أن أمحو من ذاكرتي شيئًا ما يظلّ يزعجني ولكن عبثًا ما أحاول.
زنازين غزّة والخليل، ورِجْلا إبراهيم غرايبة المقطوعتان، وعَيْنا عمر سلامة المذعورتان وقطامش الذي أصاب الشّلل جميع أطرافه فأقعده. كلّ هذه لا تبرح ذاكرتي ولا تُغادرها.
لكن، ثمّة ذكريات حبيبية عليّ، ذكريات أحبّها حقًّا. ذكريات هي غذاء روحي في الساعات الصّعبة تبلّ رمقي، إلى ما هو جميل في الإنسان. تلك هي ذكرياتي عن سلمان. تعرّفت عليه في ظروف عاديّة جدًّا. عرفت فيه شابًّا مثقّفًا وشديد الحساسية وشاعرًا يتعشّق الفنّ. وقد قالوا لي: إنّه "درزي".
كان لقاؤنا الثاني والهام في السجن، الذي زُجّ به بعد أن رفض الخدمة العسكرية. تحدّث إليّ بهم. لم يحطّمه السجن، ولكنّي شعرت بمعاناته. لقد عبّ الكلمات التي تروي ما يحدث في الخارج، عن النضال والأحداث، وأسف لأن ليس بإمكانه المشاركة فيها. وأحسست لمعرفتي للسجون العسكرية، كم هو مهمّ إخراجه منها بالسرعة الممكنة. انتظر سلمان المحاكمة العسكرية. إنّه فَرارِي، رافض للخدمة، وعلمنا أنّ مصيره لن يكون حسنًا.
التقينا في قاعة المحكمة المختصّة في يافا. جاء أصدقاء سلمان كرجل واحد وحضر أيضًا أخوه البكر. أمّا سلمان فكان يرتدي البنطلون الخاكي، الفضفاض بسبب نحافته، ويرتدي القبّعة التي لم تجلس على رأسه بصورة جيّدة. كان يبتسم لأصدقائه، رأيت الاعتزاز على وجهه وفكّرت: فعل السّجن به فعله.
واستمعت المحكمة قبلنا إلى قضايا جنود آخرين. وتتالت المآسي الإنسانية البسيطة واحدة إثر أخرى. فراريّون، اعتادوا على الهروب من الخدمة ليخطفوا بعض أيّام عمل لمصلحة العائلة المحتاجة لكلّ قرش. كانت تفسيراتهم منفعلة، تعتريها صعوبات التعبير وخوف الحكم.
ها هي إسرائيل الثانية، إسرائيل "القبيحين" على حدّ تعبير غولدة، فكّرتُ. وقد دلّت الأحكام القاسية المفروضة عليهم عن توجّه الحاكم لمشاكلهم المؤلمة.
وجاء دورنا. وطُلب من سلمان، المُتّهم، أن يقف وقفة الاستعداد، وقرأ رئيس المحكمة اسمَه وعنوانه. ولاقى صعوبة كبيرة في لفظ اسم القرية "المغار" بشكل صحيح، وأشار "درزي". وعندها قال سلمان بصوت عالٍ، والذي لم أظنّ أنّ لديه مثله: "أنا عربيّ". وخيّم الصّمت على القاعة. ونظر القاضي إلى سلمان بدهشة وقال: "حسب ما أعرفه فإنّ المتّهم درزي"... وابتسم سلمان منتصبًا بقامته في الثياب المضحكة وأجاب: "لا، يا سيّدي، أنا ابن الطائفة الدرزية، ولكنّي عربيّ القوميّة". ورطنَ القاضي بشيء ما، من أنّ الدروز ليسوا عربًا. وأصرّ سلمان على رأيه وأعاد جملته القصيرة والمُغضبة: "أنا عربيّ".
وأظهر قاضي المحكمة، بصورة تظاهرية، عدم صبره، إذ أنّ هذا المستعرب لا يفهم أصول اللّعب المعروفة منذ سنوات للجميع: أنّ السلطة بحاجة لدمهم. ولقاء دمائهم تمنحهم فتات الامتيازات: نقول إنّهم ليسوا عربًا، وأنّهم أفضل بكثير من العرب. وهذا تحديد ذو أهميّة خاصّة وأنّه يشير إلى تفكيرنا عن العرب. وكم من الصعب أن تكون عربيًّا بيننا... مفهوم جدًّا أنّهم حتّى الآن بعيدون عن "أنتَ اختَرْتَنا". إنّهم بكلّ بساطة "قوميّة متوسّطة" ولن يقول لهم أحد "عربي قذر". وهذا المتّهم المسكين، يرفض بوقاحة فتات الامتيازات. ليس هذا فقط، بل إنّه يقفُ أمامي مثل هذا الموقف ومصيره بيدي، أن أعفو أو أحكم، واختياره إمّا الحريّة أو الزنزانة المليئة بالجرذان وذات الرائحة الكريهة حيث لا نهاية لدقائق الساعات.
كنت ملتصقة كليّة بوجه سلمان وملتصقه بعينيه السوداوين الواسعتين المفتوحتين. وُخيّل إليّ أنّه انتظر هذه اللّحظة، وفي زنزانته في السّجن لاطف ودلّل هاتين الكلمتين ليقذف بهما في جوّ القاعة كتحدٍّ للقاضي.
شيء ما فرح وسعيد ملأ أعماقي في هذه القاعة المكتظّة. وأتذكّر كلمات أخد أبطال مكسيم غوركي:
"كلمة الإنسان هي ترنيمة الاعتزاز".
***
فيليتسيا لانغر، من مفكّرتي، تقديم الدكتور إميل توما، منشورات دار الكاتب، القدس 1979
***
صحيفة الاتحاد