إيلاف - 16 مارس 2004
مقابلة صحفية نشرت في إيلاف:
سلوى علينات من القدس:
نشر مؤخرا الشاعر الفلسطيني سلمان مصالحة كتابًا باللغة العبرية: "واحد من هنا"، ويتكون الكتاب من خمس واربعين قصيدة شعرية تشبه في نظمها الشعر العربي الا انها مكتوبة بلغة عبرية، وفي هذا السياق يقول الشاعر مصالحة "هناك حساسية زائدة عن اللزوم حول الكتاب كونه مكتوبا باللغة العبرية والسبب من وراء ذلك هو عنصرية عربية واسلامية ضد اليهود بسبب الوضع السياسي الراهن. بمعنى ان العرب لا يتحدثون عمن يكتب بالفرنسية والانجليزية وكأن هناك مشكلة معينه".
ولد الشاعر سلمان مصالحة في قرية المغار داخل الخط الاخضر وقد نشأ كما يقول ليكون شاعرا وشاعرا فقط، وبعد ان بلغ الثامنة عشرة رفض ان يلتحق بالعسكرية الاسرائيلية كسائر ابناء طائفته الدرزية التي فرضت عليها الخدمة العسكرية الاجبارية عام 1953 ويقول في ذلك "ارفض ان اكون جزءا من جيش الاحتلال". وقد سجن الشاعر بعدها عدة شهور ثم شد رحاله الى القدس ليدرس في الجامعة العبرية ادب المسرح واللغة العربية ومن ثم ليدرّس اللغة العربية في الجامعة بعد ان حصل على الدكتوراه في الادب الجاهلي. وللشاعر خمس مجموعات شعرية بالعربية هي "معناة طائر الخضر" و"كالعنكبوت بلا خيوط" و"مقامات شرقية" و"ريش البحر" و"خانة فارغة"، كما شارك في إعداد المعجم المفهرس للشّعر العربي القديم. كما وله عدة ترجمات للعربية والعبرية.
وحول سؤال ماذا تعني له الكتابة باللغة العبرية فيقول الشاعر مصالحة "انا بكتابتي باللغة العبرية أنسف المقومات التي تقوم عليها النظرة الصهيونية، بمعنى اخر، انا اصادر اللغة العبرية من الصهيونية واعيدها الى المكان الشرقي الحضاري المتعدد الذي يجمع كل اللغات السامية التي لا يمكن لاي عربي او مسلم ان يفهم حضارته العربية والاسلامية دون الاستعانة باللغة العبرية. عندما اكتب بالعبرية فانا اتحدى الصهيونية لان ما يصدر عني هو قول عربي لشاعر عربي باللغة العبرية." ويرى الشاعر مصالحة ان الشعر يكتب بكل لغة لانه يجدر به ان يصل الى كل انسان ليؤثر فيه فيقول: "حين تفهم اللغة وكانها حامل لرؤى وتوجهات معينة مقولبة، يجد القارئ نفسه امام مقولات تضعضع كيانه الحضاري واللغوي والفكري والشعري ولهذا السبب لا يستطيع أي قارئ ان يبقى لا مباليا امام النص الشعري مهما كانت لغة صاحبه". ويتابع بقوله: "هناك اسطورة بين المثقفين العرب بشكل عام النظرة الى اللغة العربية وكانها لغة ام هذه اسطورة..في الحقيقة اللغة العربية والمقصود لغة الكتابة هي لغة مكتسبة وليست لغة ام. انا كانسان اتعامل مع الكلمة المكتوبة بكل اللغات ولو كنت اجيد اللغة الصينية كما اجيد العبرية لكتبت الشعر فيها. انا لم اتنازل عن لغتي اذ كتبت بالعربية، ولن اتنازل عنها ابدا كتابة واحساسا، انما انا انظر الى اللغة كوسيلة للتعبير فقط، يعني كما لو كنت موسيقيا اعزف على الة معينة ووجدت لدي القدرة على العزف على الة اخرى فلن امتنع. ولا ننسى ان اللغة العبرية هي جزء لا يتجزأ من ميراث هذا الشرق وبوصفها كذلك فهي جزء لا يتجزأ من حضارتي".
وبالنسبة للشاعر مصالحة فان اللغة مختلفة الا ان المضمون واحد فيقول "حتى ولو كتبت باللغة العبرية فانا لا اتحدث بلغتين لشعبين انما بنفس اللسان، الموقف والرؤية".
وينظر الشاعر مصالحة بأسى الى حالة الشعر العربي في الوضع الراهن حيث اصبح الشعر تكسبا على حساب النفس والشعور وهو يحاول ان ينأى بنفسه عن تدهور الحالة الشعرية فيقول ""انا لست شاعرا متكسبا ولست شاعرا محترفا للجوء كبعض الشعراء "الوطنيين". كتابة الشعر هي ولوج الى خبايا النفس البشرية لاعطاء تفسيرات ودواء للروح البشرية المتالمة. ولولا الشعر لما كانت الحياة جديرة بالحياة ".
وهو يرى في بعض النخبة الفكرية العربية الحالية التي تتباكى على استبداد الانظمة داءا يهوي بالشعب العربي الى القاع فيقول: "العالم العربي يمضي بخطى متسارعة نحو الاندثار. هذا ليس تشاؤم انما هذا ما اراه. وليست فقط الانظمة العربية الفاسدة هي المسؤولة عما يجري الان انما ايضا من يسمون انفسهم برجال الفكر والنخبة العربية، لانهم في غالبيتهم اما سلطويون واما متعاونون مع القوى الظلامية في المجتمع العربي او ضائعون".
وللشاعر مصالحة انتقادات لاذعة تطال الانظمة العربية الفاسدة وتركيب المجتمع العربي الاسلامي فيقول "سبب ضياع الامة العربية كامن في التركيبة السامة فيها والتي تشمل العقلية القبلية الجاهلية مع الايديولوجية الاسلامية الظلامية وباتحادهما لا يمكن ان ينتج خير". ويطرح الشاعر العربي المؤمن بالتغيير الكلي بالمجتمع الذي يعيشة حلا يعتمد النموذج الغربي فيقول "الانفتاح على العالم وفصل الدين عن الدولة بصورة مطلقة هو الحل لحالة الاندثار التي نعيشها. افضل النموذج الغربي الاروبي عن نماذج اخرى لانه وضع الفرد في المركز واهتم بالمرأة. وبرأيي من الافضل للامة العربية ان تطرح شعار المرأة هي الحل ولا شيئ غير هذا الشعار يبعث الحياة في هذه الامة. النقص الموجود لدى الامة العربية والاسلامية كامن في عدم وجود المرأة على أي صعيد فاعل في المجتمع. وهذا سبب بلائها بالتخلف وليس الامبريالية او الصهيونية كما يتوهم البعض."
وعن المراة يكتب في كتابه الاخير "واحد من هنا" قصيدة تحت عنوان "قفص":
على كف يدها رسم الاخرون
خطوطًا لقفص، وسجنوا داخله
سيرتها الذاتية. وانا،
لأنّني من يعرب، اكره
ان يكون عصفور في الاسر. كل مرة
تعطيني فيها يدها امحو خطا.
واحرر عصافير.
وبالرغم من انه يعيش الصراع العربي الاسرائيلي منذ نشاته قبل خمسين عاما الا انه لا يرى هذا الصراع لانه يرى بنفسه انسانا حرا ويقول "لست محتلا، اسرائيل في نظامها الاحتلالي لا تختلف عن بقية الانظمة العربية الفاسدة بتركيبتها القبلية". وهو لا يفهم معنى الا يكون الناس احرارا مثله مثلما لا يفهم الناس كونه محتلا مثل بقية شعبه فيمضي بالقول "انا انسان حر في وطني، والعرب لا يفهمون معنى الحرية لانهم لا يعيشونها. وقد آن لهم ان يعرفوها. انا ادعوهم الى مملكة الحرية التي اعيشها والتي تمنحني حق ان افكر ما اشاء وان اكتشف ما اشاء. حريتي موجودة ليل نهار معي ولم اكتسبها هكذا بلا تعب بل هي حصيلة تعب وجهد اضناني. فقد ولدت مثل غيري مكبلا بالقيود وسعيت طيلة حياتي من اجل انتزاعها. فانا الكون والعالم بمن فيه داخلي. منذ سنين وانا لا انظر الى الناس في الشوارع انما الى العالم الموجود داخلي من الاحياء والاموات والطبيعة والجماد".
ويرى الشاعر مصالحة في قريته المغار التي لم يزرها منذ عام 1972 الا لماما مقطعا صغيرا يعبر عن الشرق الكبير في كل طروحاته وافكاره واحلامه التي لم تتحقق بعد، فهو يلغي الحدود والمعابر وجوازات السفر ليضع الشرق كله في مكان واحد ويقول "بالنسبة لي قريتي المغار هي ميكروكوسموس للشرق العربي كله، الحديث عن وجود شعب واحد له مكونات واحلام تتكسر على صخرة الواقع. وطني متعدد ووطني مصاب بمرض نفساني هو الانفصام في الشخصية وانا جزء من هذا الوطن. اريد ان نواجه الواقع، لا اريد ان أدّس راسي في الرمال كما تفعل الغالبية العظمى. وانا في نهاية المطاف فرح بهذا الانفصام لانه مصدر الهام لا ينبض ولانه ماض الى الاندثار. اما انا فلن اندثر بل اني البذرة التي سيخرج منها فرع عربي حر".
وفي كتابه "واحد من هنا" تناول الصراع بعمق، بدون شعارات زائدة او تلاعبات بالالفاظ يقول في قصيدة "ابي ايضا":
لابي الذي ولد في سفح الجبل
ونظر الى البحيرة
لم يكن ابدا جواز سفر
ولا حتى تصريح عبور.
وقد قطع الجبال
عندما لم تتدفق الحدود
في النهر. لابي
لم يكن جواز سفر في العالم.
ليس لانه بلا ارض وبصمات.
انما لان الارض سكنت بهدوء
في أكف يده.
ومثلما الارض لم تهرب
من يديه ابدا
وتسافر الى ما وراء البحار
ابي – ايضا
وهو يرى في نفسه بداية التغيير لكن بالاندماج في العالم الاخر وعلى الرغم من انه يقول عن نفسه "انا عربي وثني" الا انه يؤمن بالعروبة المركبة من مزيج الحضارات الماضية والحاضرة والعروبة لديه ليست محصورة على عرق واحد، اما عن الوثنية التي تشكل جزءا من هويته الذاتية فيقول: "وفي الوثنية تعدد الهة اؤمن بها مثل الهة الجسد والجمال والهة الحب والحرية والشعر والبحر والنهر والشجر والقمر وغيرها. الاله عندي عندي هو كل فكرة تدخل الفرح الى قلب البشر". والشعر عنده يكشف النقص ويملأه في آن واحد فيقول "الشعر يأتي من مكان يسود فيه النقص وبواسطة الشعر يتم ملء هذا النقص. كل شاعر يملأ هذا النقص الموجود في نفسه اولا. واذا قرأه قارئ في أي مكان في العالم وملأت كلماته هذا النقص في نفس القارئ فقد بلغ مبتغاه. وقصائدي دائما تفضحني وربما لانها الوسيلة التي اريدها من اجل كشف ما في داخلي." ويتابع بقوله "العرب في الماضي كانوا يعرفون كيف يكتبون الشعر، فالقصيدة هي وحدة قائمة بذاتها، وكتابة الشعر يجب ان تكون مثل كتابة الرواية والقصة والمؤلف الموسيقي. وعلى القصيدة ان تحمل مضمونا ما، ولا يجدر بالقصيدة ان تكون مجرد تهويمات كما يفعل بها كثير من الشعراء." وفي قصيدة من بضع اسطر تسجد كثيرا من المعاناة في ديار السمن والعسل، يكتب الشاعر مصالحة تحت عنوان "قط سيامي":
عربي يمشي قرب الجدار
يحمل على ظهره
صناديق ملأى بالمعلّبات
في شوارع القدس.
يهودي يمر به.
يلتف بكلتا يديه
قط سيامي
يموء.
والشعر طريقه الى الاشراق وربما التوحد مع عوالم لا يزال يجهلها فهو كالنبي يمهد لعوالم لم تأت بعد "دائما ابحث عن المقولة الشعرية، ابحث عن حقيقة الوجود كجوهر قائم بذاته، ابحث بدون أية رقابة دينية او ثقافية او غيرهما وذلك من اجل محاولة الاقتراب من جوهر الكون وهذه الطريق هي التي تفضي الى الاشراق". والشاعر مصالحة منذ ان ولد وهو يحمل في داخله هم الشعر الى درجة التوحد فيه ليل نهار وتجده يقول "الشاعر يعيش حالة الشعر ما دام يقظا واحيانا عندما ينام يأتيه هاجس الشعر بالاحلام، بالنسبة لي الشعر هو وجودي وبدونه لا وجود لي. الشعر صناعة كما اسماه القدماء، بمعنى لا يوجد شيطان للشاعر، فهذا الشيطان في الحقيقة هو الشاعر نفسه، كل شاعر يجب ان يكون شيطانا من ذاته وان لم يكن كذلك فما هو بشاعر".
وتحت عنوان لقصيدة سماها "جواب نهائي على السؤال كيف تعرّف نفسك؟" يجيب الشاعر في كتابه "واحد من هنا":
ولدت عند اقدام الجبل
لم تنبت لي الجذور ابدا
عندها كبرت مع الافق الازرق.
والمكان، الذي وقعت عليه عيناي،
كان دائما وطنا للجميع.
وهكذا تعلمت التفريق
ما هو المقدس، وما هو العادي. ولذلك،
اذا اردتم اؤكد لكم
انني شاعر عربي
قبل الاسلام
نشر جناحيه للصحراء...
اما الحلم عنده فمورد للشعر لا ينبض وهو يعلم كثيرا من الناس لا يوافقونه القول فيما يعتقد الا انه يقول ما يعتقد فمن اراد آمن واهتدى ومن اراد نفر ومضى، ويمضي الشاعر بحلمه فيقول "اعرف ان الطروحات التي اطرحها الان هي طروحات قد تظهر للوهلة الاولى غيبية لكني اريد ان احوّل هذه الغيبيات الى حلم لاجيال عربية من المحيط الى الخليج. بامكان هذا الحلم ان يتحقق فقط اذا غيّرنا هذه البرمجة السلبية لعقولنا وحررناها من قيودها".
*
نشرت المقابلة في "إيلاف"، 16 مارس 2004
***
مقابلة صحفية نشرت في إيلاف:
وثني عربي والحمد لله
بعد ان نشر خمس مجموعات بالعربية، أصدر ديوانه الأول المكتوب بالعبرية
سلمان مصالحة: انا وثني عربي والحمد لله
سلوى علينات من القدس:
نشر مؤخرا الشاعر الفلسطيني سلمان مصالحة كتابًا باللغة العبرية: "واحد من هنا"، ويتكون الكتاب من خمس واربعين قصيدة شعرية تشبه في نظمها الشعر العربي الا انها مكتوبة بلغة عبرية، وفي هذا السياق يقول الشاعر مصالحة "هناك حساسية زائدة عن اللزوم حول الكتاب كونه مكتوبا باللغة العبرية والسبب من وراء ذلك هو عنصرية عربية واسلامية ضد اليهود بسبب الوضع السياسي الراهن. بمعنى ان العرب لا يتحدثون عمن يكتب بالفرنسية والانجليزية وكأن هناك مشكلة معينه".
ولد الشاعر سلمان مصالحة في قرية المغار داخل الخط الاخضر وقد نشأ كما يقول ليكون شاعرا وشاعرا فقط، وبعد ان بلغ الثامنة عشرة رفض ان يلتحق بالعسكرية الاسرائيلية كسائر ابناء طائفته الدرزية التي فرضت عليها الخدمة العسكرية الاجبارية عام 1953 ويقول في ذلك "ارفض ان اكون جزءا من جيش الاحتلال". وقد سجن الشاعر بعدها عدة شهور ثم شد رحاله الى القدس ليدرس في الجامعة العبرية ادب المسرح واللغة العربية ومن ثم ليدرّس اللغة العربية في الجامعة بعد ان حصل على الدكتوراه في الادب الجاهلي. وللشاعر خمس مجموعات شعرية بالعربية هي "معناة طائر الخضر" و"كالعنكبوت بلا خيوط" و"مقامات شرقية" و"ريش البحر" و"خانة فارغة"، كما شارك في إعداد المعجم المفهرس للشّعر العربي القديم. كما وله عدة ترجمات للعربية والعبرية.
وحول سؤال ماذا تعني له الكتابة باللغة العبرية فيقول الشاعر مصالحة "انا بكتابتي باللغة العبرية أنسف المقومات التي تقوم عليها النظرة الصهيونية، بمعنى اخر، انا اصادر اللغة العبرية من الصهيونية واعيدها الى المكان الشرقي الحضاري المتعدد الذي يجمع كل اللغات السامية التي لا يمكن لاي عربي او مسلم ان يفهم حضارته العربية والاسلامية دون الاستعانة باللغة العبرية. عندما اكتب بالعبرية فانا اتحدى الصهيونية لان ما يصدر عني هو قول عربي لشاعر عربي باللغة العبرية." ويرى الشاعر مصالحة ان الشعر يكتب بكل لغة لانه يجدر به ان يصل الى كل انسان ليؤثر فيه فيقول: "حين تفهم اللغة وكانها حامل لرؤى وتوجهات معينة مقولبة، يجد القارئ نفسه امام مقولات تضعضع كيانه الحضاري واللغوي والفكري والشعري ولهذا السبب لا يستطيع أي قارئ ان يبقى لا مباليا امام النص الشعري مهما كانت لغة صاحبه". ويتابع بقوله: "هناك اسطورة بين المثقفين العرب بشكل عام النظرة الى اللغة العربية وكانها لغة ام هذه اسطورة..في الحقيقة اللغة العربية والمقصود لغة الكتابة هي لغة مكتسبة وليست لغة ام. انا كانسان اتعامل مع الكلمة المكتوبة بكل اللغات ولو كنت اجيد اللغة الصينية كما اجيد العبرية لكتبت الشعر فيها. انا لم اتنازل عن لغتي اذ كتبت بالعربية، ولن اتنازل عنها ابدا كتابة واحساسا، انما انا انظر الى اللغة كوسيلة للتعبير فقط، يعني كما لو كنت موسيقيا اعزف على الة معينة ووجدت لدي القدرة على العزف على الة اخرى فلن امتنع. ولا ننسى ان اللغة العبرية هي جزء لا يتجزأ من ميراث هذا الشرق وبوصفها كذلك فهي جزء لا يتجزأ من حضارتي".
وبالنسبة للشاعر مصالحة فان اللغة مختلفة الا ان المضمون واحد فيقول "حتى ولو كتبت باللغة العبرية فانا لا اتحدث بلغتين لشعبين انما بنفس اللسان، الموقف والرؤية".
وينظر الشاعر مصالحة بأسى الى حالة الشعر العربي في الوضع الراهن حيث اصبح الشعر تكسبا على حساب النفس والشعور وهو يحاول ان ينأى بنفسه عن تدهور الحالة الشعرية فيقول ""انا لست شاعرا متكسبا ولست شاعرا محترفا للجوء كبعض الشعراء "الوطنيين". كتابة الشعر هي ولوج الى خبايا النفس البشرية لاعطاء تفسيرات ودواء للروح البشرية المتالمة. ولولا الشعر لما كانت الحياة جديرة بالحياة ".
وهو يرى في بعض النخبة الفكرية العربية الحالية التي تتباكى على استبداد الانظمة داءا يهوي بالشعب العربي الى القاع فيقول: "العالم العربي يمضي بخطى متسارعة نحو الاندثار. هذا ليس تشاؤم انما هذا ما اراه. وليست فقط الانظمة العربية الفاسدة هي المسؤولة عما يجري الان انما ايضا من يسمون انفسهم برجال الفكر والنخبة العربية، لانهم في غالبيتهم اما سلطويون واما متعاونون مع القوى الظلامية في المجتمع العربي او ضائعون".
وللشاعر مصالحة انتقادات لاذعة تطال الانظمة العربية الفاسدة وتركيب المجتمع العربي الاسلامي فيقول "سبب ضياع الامة العربية كامن في التركيبة السامة فيها والتي تشمل العقلية القبلية الجاهلية مع الايديولوجية الاسلامية الظلامية وباتحادهما لا يمكن ان ينتج خير". ويطرح الشاعر العربي المؤمن بالتغيير الكلي بالمجتمع الذي يعيشة حلا يعتمد النموذج الغربي فيقول "الانفتاح على العالم وفصل الدين عن الدولة بصورة مطلقة هو الحل لحالة الاندثار التي نعيشها. افضل النموذج الغربي الاروبي عن نماذج اخرى لانه وضع الفرد في المركز واهتم بالمرأة. وبرأيي من الافضل للامة العربية ان تطرح شعار المرأة هي الحل ولا شيئ غير هذا الشعار يبعث الحياة في هذه الامة. النقص الموجود لدى الامة العربية والاسلامية كامن في عدم وجود المرأة على أي صعيد فاعل في المجتمع. وهذا سبب بلائها بالتخلف وليس الامبريالية او الصهيونية كما يتوهم البعض."
وعن المراة يكتب في كتابه الاخير "واحد من هنا" قصيدة تحت عنوان "قفص":
على كف يدها رسم الاخرون
خطوطًا لقفص، وسجنوا داخله
سيرتها الذاتية. وانا،
لأنّني من يعرب، اكره
ان يكون عصفور في الاسر. كل مرة
تعطيني فيها يدها امحو خطا.
واحرر عصافير.
وبالرغم من انه يعيش الصراع العربي الاسرائيلي منذ نشاته قبل خمسين عاما الا انه لا يرى هذا الصراع لانه يرى بنفسه انسانا حرا ويقول "لست محتلا، اسرائيل في نظامها الاحتلالي لا تختلف عن بقية الانظمة العربية الفاسدة بتركيبتها القبلية". وهو لا يفهم معنى الا يكون الناس احرارا مثله مثلما لا يفهم الناس كونه محتلا مثل بقية شعبه فيمضي بالقول "انا انسان حر في وطني، والعرب لا يفهمون معنى الحرية لانهم لا يعيشونها. وقد آن لهم ان يعرفوها. انا ادعوهم الى مملكة الحرية التي اعيشها والتي تمنحني حق ان افكر ما اشاء وان اكتشف ما اشاء. حريتي موجودة ليل نهار معي ولم اكتسبها هكذا بلا تعب بل هي حصيلة تعب وجهد اضناني. فقد ولدت مثل غيري مكبلا بالقيود وسعيت طيلة حياتي من اجل انتزاعها. فانا الكون والعالم بمن فيه داخلي. منذ سنين وانا لا انظر الى الناس في الشوارع انما الى العالم الموجود داخلي من الاحياء والاموات والطبيعة والجماد".
ويرى الشاعر مصالحة في قريته المغار التي لم يزرها منذ عام 1972 الا لماما مقطعا صغيرا يعبر عن الشرق الكبير في كل طروحاته وافكاره واحلامه التي لم تتحقق بعد، فهو يلغي الحدود والمعابر وجوازات السفر ليضع الشرق كله في مكان واحد ويقول "بالنسبة لي قريتي المغار هي ميكروكوسموس للشرق العربي كله، الحديث عن وجود شعب واحد له مكونات واحلام تتكسر على صخرة الواقع. وطني متعدد ووطني مصاب بمرض نفساني هو الانفصام في الشخصية وانا جزء من هذا الوطن. اريد ان نواجه الواقع، لا اريد ان أدّس راسي في الرمال كما تفعل الغالبية العظمى. وانا في نهاية المطاف فرح بهذا الانفصام لانه مصدر الهام لا ينبض ولانه ماض الى الاندثار. اما انا فلن اندثر بل اني البذرة التي سيخرج منها فرع عربي حر".
وفي كتابه "واحد من هنا" تناول الصراع بعمق، بدون شعارات زائدة او تلاعبات بالالفاظ يقول في قصيدة "ابي ايضا":
لابي الذي ولد في سفح الجبل
ونظر الى البحيرة
لم يكن ابدا جواز سفر
ولا حتى تصريح عبور.
وقد قطع الجبال
عندما لم تتدفق الحدود
في النهر. لابي
لم يكن جواز سفر في العالم.
ليس لانه بلا ارض وبصمات.
انما لان الارض سكنت بهدوء
في أكف يده.
ومثلما الارض لم تهرب
من يديه ابدا
وتسافر الى ما وراء البحار
ابي – ايضا
وهو يرى في نفسه بداية التغيير لكن بالاندماج في العالم الاخر وعلى الرغم من انه يقول عن نفسه "انا عربي وثني" الا انه يؤمن بالعروبة المركبة من مزيج الحضارات الماضية والحاضرة والعروبة لديه ليست محصورة على عرق واحد، اما عن الوثنية التي تشكل جزءا من هويته الذاتية فيقول: "وفي الوثنية تعدد الهة اؤمن بها مثل الهة الجسد والجمال والهة الحب والحرية والشعر والبحر والنهر والشجر والقمر وغيرها. الاله عندي عندي هو كل فكرة تدخل الفرح الى قلب البشر". والشعر عنده يكشف النقص ويملأه في آن واحد فيقول "الشعر يأتي من مكان يسود فيه النقص وبواسطة الشعر يتم ملء هذا النقص. كل شاعر يملأ هذا النقص الموجود في نفسه اولا. واذا قرأه قارئ في أي مكان في العالم وملأت كلماته هذا النقص في نفس القارئ فقد بلغ مبتغاه. وقصائدي دائما تفضحني وربما لانها الوسيلة التي اريدها من اجل كشف ما في داخلي." ويتابع بقوله "العرب في الماضي كانوا يعرفون كيف يكتبون الشعر، فالقصيدة هي وحدة قائمة بذاتها، وكتابة الشعر يجب ان تكون مثل كتابة الرواية والقصة والمؤلف الموسيقي. وعلى القصيدة ان تحمل مضمونا ما، ولا يجدر بالقصيدة ان تكون مجرد تهويمات كما يفعل بها كثير من الشعراء." وفي قصيدة من بضع اسطر تسجد كثيرا من المعاناة في ديار السمن والعسل، يكتب الشاعر مصالحة تحت عنوان "قط سيامي":
عربي يمشي قرب الجدار
يحمل على ظهره
صناديق ملأى بالمعلّبات
في شوارع القدس.
يهودي يمر به.
يلتف بكلتا يديه
قط سيامي
يموء.
والشعر طريقه الى الاشراق وربما التوحد مع عوالم لا يزال يجهلها فهو كالنبي يمهد لعوالم لم تأت بعد "دائما ابحث عن المقولة الشعرية، ابحث عن حقيقة الوجود كجوهر قائم بذاته، ابحث بدون أية رقابة دينية او ثقافية او غيرهما وذلك من اجل محاولة الاقتراب من جوهر الكون وهذه الطريق هي التي تفضي الى الاشراق". والشاعر مصالحة منذ ان ولد وهو يحمل في داخله هم الشعر الى درجة التوحد فيه ليل نهار وتجده يقول "الشاعر يعيش حالة الشعر ما دام يقظا واحيانا عندما ينام يأتيه هاجس الشعر بالاحلام، بالنسبة لي الشعر هو وجودي وبدونه لا وجود لي. الشعر صناعة كما اسماه القدماء، بمعنى لا يوجد شيطان للشاعر، فهذا الشيطان في الحقيقة هو الشاعر نفسه، كل شاعر يجب ان يكون شيطانا من ذاته وان لم يكن كذلك فما هو بشاعر".
وتحت عنوان لقصيدة سماها "جواب نهائي على السؤال كيف تعرّف نفسك؟" يجيب الشاعر في كتابه "واحد من هنا":
ولدت عند اقدام الجبل
لم تنبت لي الجذور ابدا
عندها كبرت مع الافق الازرق.
والمكان، الذي وقعت عليه عيناي،
كان دائما وطنا للجميع.
وهكذا تعلمت التفريق
ما هو المقدس، وما هو العادي. ولذلك،
اذا اردتم اؤكد لكم
انني شاعر عربي
قبل الاسلام
نشر جناحيه للصحراء...
اما الحلم عنده فمورد للشعر لا ينبض وهو يعلم كثيرا من الناس لا يوافقونه القول فيما يعتقد الا انه يقول ما يعتقد فمن اراد آمن واهتدى ومن اراد نفر ومضى، ويمضي الشاعر بحلمه فيقول "اعرف ان الطروحات التي اطرحها الان هي طروحات قد تظهر للوهلة الاولى غيبية لكني اريد ان احوّل هذه الغيبيات الى حلم لاجيال عربية من المحيط الى الخليج. بامكان هذا الحلم ان يتحقق فقط اذا غيّرنا هذه البرمجة السلبية لعقولنا وحررناها من قيودها".
*
نشرت المقابلة في "إيلاف"، 16 مارس 2004
***