Omri Herzog
Double Agent in Hebrew
"In Place," by Salman Masalha, Am Oved, 70 pp.
… I asked myself, what poetic and political task is given to someone who writes in a language that his not his mother tongue.
In 1975, the French intellectuals Gilles Deleuze and Felix Guattari coined the term "minor literature" in the context of their study of Franz Kafka: They argued that the major effect of a "minor" text, i.e. one that is written in a language that is not the original language of the writer's culture, is of de-territorialization, meaning a physical shift or change of direction that the text undergoes from the original language to the language of exile or the language of the new territory. The minor text does not have a place of its own: it functions in a space that is between given spaces – the space of the source language and the space in which the work is a visitor. The first book in Hebrew by poet and literary scholar Salman Masalha, "In Place," presents this movement: "I write in the Hebrew language / which is not my mother tongue / to lose myself in the world. He who does not / get lost, will never find the whole;" and this movement in turns creates a poetic experience that is rare in the complexity of its language, emotion and consciousness. This slim book of Hebrew is, to my taste, a masterpiece.
The unique language status of Masalha's poetry allows the conduct of negotiations with the fluid political relations that define the rules of belonging to the communal landscapes that are inherent in the Hebrew language. These are relations of negotiation that constitute a political burden – which can sometimes overwhelm certain minor works – but can also afford a creative privilege, because the poetic manipulation is carried out not on stable and pre-known language materials, but rather on the fact of their permanence and familiarity. Masalha's poems devote themselves to a double alienation effect: that which is inherent in the poetic medium itself and that which is inherent in the use of every routine of description or grammatical construction that sets it in motion. Masalha, the double agent of the speaker in the language, exploits it in a finely tuned, self-aware and sophisticated way, and enlists extraordinary creative and expressive freedom. He writes: "As I have no government, with / or without a head, and there is no / chairman sitting on my head, I can / under such extenuating circumstances / sometimes allow myself to be human, a bit free."
***
حنان حيفر
المجموعة الشعريّة "إحاد مكان" (عبرية: אחד מכאן) الّتي كتبها سلمان مصالحة، تجبر من يقرأها على أن يصيخ السّمع إلى القصائد الثّاقبة الّتي تضمّها، إذ أنّها تتطلّب من القارئ إعادة تفكير بالشّعر العبري، بإمكانات هذا الشّعر وبحدوده.
كشاعر عربيّ يكتب باللّغة العبريّة يرسم مصالحة من جديد حدودَ الأدب العبري الإثنيّة، تلك الحدود الّتي تبدو متجانسةً وأُحاديّةَ الطّابع. إذ أنّ الأدب العبري يضع بصورة دائمة شرطًا خفيًّا، غير أنّه شرطٌ صارمٌ، للتّعامل مع كلّ من يشمله أو لا يشمله هذا الأدب، وهذا الشّرط يشير إلى كون هذا الأدب أدبًا يهوديًّا. ولكن، عندما يكتب أديب عربيّ باللّغة العبريّة، وعلامات اللّغة العبريّة في كتابته لا تشير بالضّرورة إلى كاتب يهودي، فإنّ الطّريق إلى تمثيل هويّة هذا الأدب القوميّة تنفتح على مصاريعها.
إنّ مجرّد وجود نشاط لأدباء عرب في الأدب العبري، وبشكل دراماتي - ظهور كتاب أنطون شمّاس »عربسك« في العام ٦٨٩١ - يغيّر بصورة جذريّة التّعريفَ الّذي يحصرُ مصطلحَ »الأدب العبري« ضمن نطاق "الأدب اليهودي"، كما يُلزمُ قرّاءَ العبريّة على الاعتراف بأحد التأثيرات المباشرة لـ »التّجربة الإسرائيليّة« على تعريفات وحدود الأدب العبري.
سلمان مصالحة يكتب بحساسيّة متناهية ودقيقة من موقع الأقليّة القوميّة التي تعيش بصورة متحفّظة داخل "فَقَار" (canon) الأدب العبري. هذا الموقف يعود ويتحدّى الفَقَار العبري، من خلال الصّوت الآخر الّذي يُدخله الكاتب إلى لغة الشّعر العبري. إذ أنّ النّسيج اللّغوي لدى سلمان مصالحة يخلق لغةً شعريّة مُدهشة ومُبلورة وصوتًا شعريًّا موسيقيًّا؛ كما أنّه يحافظ بشكل كبير على تجانس هذه اللّغة وعلى كونها لغة شعريّة "صحيحة".
لكن، بفعله هذا، فهو يستجيب استجابة تظاهريّة إلى توقّعات القارئ العبري الّذي ينتظر العثور على صيغة كتابيّة عربيّة تبدو للوهلة الأولى "نموذجيّة". ومن خلال عمليّة مميّّزة، لما أطلق عليه كلٌّ من جيل ديلز وفليكس چواطاري اسم "الأدب المينوري"، فهو يقوم بضعضعة وتقويض الأسس الّتي يقوم عليها "الأدب الماجوري" العبري، وذلك من خلال عمله داخل هذا الأدب وفي لغة هذا الأدب المسيطر. يقوم مصالحة بابتداع لغة خاصّة به داخل لغة الشّعر العبري بواسطة كتابة پاروديا على النّظرة النّمطيّة لشعريّة عربيّة متوقَّعَة منه، وهكذا فهو يخلق توتّرًا شديدًا بين ما هو من المفروض أن تكون قصيدته وبين ما هي بالفعل.
مثال بارز على ذلك هي قصيدة "شقائق نعمان: قصيدة فلسطينيّة"، المهداة إلى جدّة زالي چوريڤيتش. في هذه القصيدة ثمّة صدى لمنمنمة ياپانيّة تنتهي بقفلة تضمينيّة:
البحيرة تَسَلّقَتْ مُنذُ أَوانٍ بعيد
فُروعَ الشّجَر.
الفَلاّحُ يحرثُ الحقول
حافيَ القَدَمين.
لا ينتبهُ ساعةَ الصّباح
إلى الرّبيع المقترب.
شَقائقُ النّعمان حَوالَيْه
قَدْ أزهرتْ
سُطوحَ قرميد. (ص 42)
للتّعبير "قد أزهرت" موقعٌ مضاعَف: إنّه يُكملُ جملة "شقائق النّعمان حواليه / قد أزهرت"، كما أنّه يبدأ جملة أخرى "قد أزهرت / سطوحَ قرميد". وهكذا فهذه القصيدة ذات المبنى البسيط إلى حدّ بعيد (المُتوقَّع، وذي الطّابع المُنَمَّط) تحمل في نهايتها تعقيدًا غير متوقَّع يُضعضعُ استيعابها المُسَطَّح والمُبسَّط النّابع من نظرة مُسبقَة نمطيّة.
هنا أيضًا تُشكّلُ السُّخرية سلاحَ مصالحة ككاتب لـ "أدب مينوري" يقوم بضعضعة اللّغة والفَقَار الّذي يعمل فيه. ينهي مصالحة القصيدة الأولى في الكتاب بعنوان "پريحاه" (وهي مفردة عبريّة لها دلالة مضاعفة إزهار، أو طَفَح) بواسطة وَقْعَنَةٍ (realization) للتّعبير الشّائع في اللّغة العبريّة الدّارجة "يُسبّبُ لي طَفَحًا" (بمعنى: يثيرُ أعصابي)، حيث يتحوّل التّعبير إلى تعامل مباشر مع المشهد الإسرائيلي الآخذ في الفراغ من حوله. في مقابل النّقص والعدم اللّذين يخيّمان على المشهد، يقف الخريف والعصف اللّذان "يجرحان النّفس كما الموسى،/ وُيسبّبان طفحًا في العينين" (ص ٧). الطّفحُ في العينين يُغَيِّرُ بشكلٍ ساخر مشهدَ الأشجار والإزهار الّذي من المفروض أن يكون موجودًا وملء العينين، إلاّ أنّه بات في عداد العدم.
روح ساخرة بصورة خاصة تُخيّم على القصيدة الّتي تحمل عنوان "عن الإيمان بالتّمائم كوسيلة لإحلال السّلام في الشّرق الأوسط"، والّتي تشتمل على عنوان ثانويّ "قصيدة عن التّعايش اليهودي العربي" (ص 34). هذا القالب النَّصّي الّذي يُضعضعُ مفاهيم القارئ المتعلّقة بحدود الأدب العبري، اليهودي من النّاحية الإثنيّة، يتطوّرُ في بعض قصائد الكتاب من خلال تَبَنٍّ ثابت لمبنى مُقَفّى يدمج بين قافية داخليّة وقافية خارجيّة، ما يُضفي على القصيدة تناغُمَها الثّابت، والّذي يبدو ساذجًا ظاهريًّا.
غير أنّ هذا النّغم - على سبيل المثال، في قصيدة "بالادة عربيّة" - يعرضُ نصًّا استشراقيًّا، ذا طابع مُنَمَّط، مقلوبًا رأسًا على عقب؛ وبكلمات أخرى، إنّه نصّ مكتوب عن الشّرق ولكنّه يأتي من جهة الشّرق وليس، كما هو معهود، من جهة الغرب الّذي ينظر إلى الشّرق نظرة استشراقيّة:
صاعدٌ إلى قمم الجبال،
كما أغنية تأتي وتروح،
في قرارة ذاته يُغنّي.
النّفسُ - حطامٌ وخواء.
عدّ آلاف اللّيال.
ولم يأت السَّحَر.
وفي شعاب الصّحراء
تقطّرَ عرقُ الرّمال. (ص 71)
إنّ مصدر هذا الموقف الّذي يظهر جليًّا في القصائد والذي غايته الضعضعة والتقويض هو الإدراك العميق بأنّ هذه القصائد تُكتَب في وضع من العنف والموت. في قصيدة "برج العقرب"، وهي قصيدة تقوم برسم صورة ذاتيّة، فإنّ النّبرة الشّعريّة تنمو كما لغة تتشعّب إزاء وعي عميق بوجود كارثة:
وعلى مرّ السّنين، تعلّمتُ
أن أسلخَ عنِّي جِلْدِي.
كما لو أنّني ثعبان سُبِيَ
بين مقصّ وأوراق.
هكذا حُتم مصيري
بكلمات مشتقَّة من جذور
الألم. مع لسان بشعبتين،
واحدة عربيّة - تحفظ ذاكرةَ
الأمّ. ثانية عبريّة - في ليالي
الشّتاء للحُبّ. (ص 21-31).
كتابة الشّعر هي كردّ فعل الثّعبان إزاء الخطر الّذي وجد نفسه فيه. يُلصقه المقصّ إلى الورق فتأتي نتيجة القصّ الإستعاري على شكل "كلمات مشتقّة". يخلع الثّعبان جلده في مواجهة الخطر - فتكون النّتيجة لغة تتشعّب شعبتين، كلسان الثّعبان. يخلق مصالحة انفصالاً داخليًّا في لغته الشّعريّة، ما يتيح له التّوجّه إلى الجمهور العبري من وراء قناع. إنّ كتابته الشّعريّة هي ما يمكّنه من البقاء بقوّة بين عضوين متشعّبين من خلال تبنّي تَصَوُّرٍ ما بعد كولونياليّ، وهي حالة وسطيّة للاضطهاد الّذي يعمل بطرق غير مباشرة. ولذلك، فهو عندما يعلن عن التّشعّب والفصام فإنّما يفعل ذلك بواسطة تقفية، أو تسجيع التّناقضات في مفردتي "الحفظ" و"الحبّ"، اللّتين تنضمّان إلى "الألم"، وهي جميعًا مفردات متساجعة في العبريّة.
إنّ تمثيل المكان الّذي يكتب منه الشّاعر هو تمثيل لمكانٍ عنيف لا مخرج منه:
ما أسرعَ تَغيُّر العالَم.
وعندي، بلغَ السّيلُ
الزُّبى. آلت الأمورُ إلى
حالٍ عدلتُ فيها عن
التّفكير بالخريف.
لأنّه، من هذا المكان،
لا يوجد إلى أين نروح.
ومن الحديقة، اقتُلعت
الأشجارُ، وغابت في العدم.
وفي هذه الأيّام،
خطرٌ الخروج للشوارع
في البلاد. الشّارعُ
رطبٌ للغاية.
دم يسيلُ في الشّريان
الرّئيسي... (ص 40)
من خلال لفتة تجاه داڤيد أڤيدان "لا يوجد إلى أين نروح..." يقوم مصالحة بفكّ رموز التّعبير الشّائع واليومي "شارع رطب" بوصفه عنفًا نابعًا من رطوبة أخرى. "دم يسيل في الشّريان الرّئيسي". ومرّة أخرى، تنتهي هذه القصيدة المموسقة بالوعي بأنّ هذا المكان هو مكان عنيف مسدود المخارج. وهكذا أيضًا يُنهي قصيدة "قصيدة وطن" بـ "بلادٌ تدرّ الحليب والعسل، ووطن مشئوم" (ص 41)، وعلى هذا المنوال ينهي قصيدة "عمليّة قيصريّة": "في غرفة خلفيّة، يمرّ هذا المساء/ عبر عمليّة قيصريّة، وطنٌ مُغتَصَب". (ص 31). وهكذا ينهي الموتُ ورموزه عدّة قصائد في هذه المجموعة. كذا أيضًا في قصيدة "بُقَع ألوان" الّتي تنتهي بـ "الحفرة الفاغرة فاها" (ص 8)، وهكذا في "صورة شخصيّة" الّتي تنتهي بتعليق صاحب الصّورة نفسه على الحائط.
الوعي بكون هذا الشّعر يُكتب في مكان مصاب بداء العنف يعود فيطرح حالة التّشعُّب والفصام كطريق وحيدة للبقاء. ففي قصيدة "أنا أكتب العبريّة" فهو يكتب:
"أكتب باللّغة العبريّة،
الّتي ليست لغة أمّ لي،
كي أضيع طريقي في هذا العالَم.
مَنْ لا يُضيعُ طريقَه، لن يعثرَ على الكمال". (ص 51)
فقدان وإضاعة الوُجْهَة (orientation) - للغة وللهويّة من بعدها - تظهر في القصيدة بوصفها الطّريق الوحيدة للوُجهة في عالَم مليء بالعنف، ومن هُنا فهو يصبح قاب قوس أو أدنى من تشخيص عشوائيّ وعَرَضِيّ لشركاء الدّرب، ذوي الصّلة بالموضوع وغير المزروعين في هويّة محدَّدة: "وسألتقى بأناس/ كثيرين. وسأجعلهم جميعًا زملائي./ من ذا الغريب؟ / من ذا البعيد والقريب؟/ لا غربة في تفاهات الدّنيا / لانّ الغربة في الغالب/ تكمن في قلب الإنسان" (51-61). الحاضرون من حوله، وعلى وجه الخصوص هو ذاته، ليسوا ذوي هويّة محدّدة ذات خصوصيّات واضحة المعالم:
لأنِّي لا حكومةَ لي،
مع أو بلا رأس، وليس لي
من رئيس جاثمٍ فوق رأسي.
أستطيع، في هذه الظّروف الشّفيعَة
أن أكون حرًّا بعضَ الشّيء« (ص 24)
فالهويّة الّتي يختار أن يُعرّف فيها ذاته، تتّصل بالمكان من مجرّد الحضور الأصلانيّ فيه، وليس من خلال هويّة قوميّة أيًّا كانت: »وكنتُ يهوديًّا، قبل أن يعومَ يسوعُ على مياه طبريّة (...) وكنتُ مُسلمًا في بلدِ المسيح، وكاثوليكيًّا في الصّحراء" ص 56-57).
فليس الوطن سوى بناية سكنيّة متعدّدة الشّقق، كما في قصيدة لذكرى إميل حبيبي:
في صفّ الأشجار الغارقة في الصّخور
إنزرع رجال، نساء ووجوم. قاطنو
بيت الشّقق المسمّى الوطن.
يهود لم أسمع صوتهم،
عرب لم أفهم كنههم،
ومعزوفات لم أعرف تشخيصها
في اللّحظة الهامدة. ... (ص 26)
سلمان مصالحة يتحدّى العلاقة القائمة مع المكان، تلك الّتي تستند إلى هويّة قوميّة، ويتحدّى الإدّعاء القائل بأنّ الهويّة القوميّة هي الوحيدة الّتي بوسعها أن تمنح الفرد الحريّة. ففي قصيدة »أبي أيضًا« فهو يطرح خيارًا لوجود مستقلّ مقابل رموز السّلطة في البلاد - إنّه يطرحُ خيار حريّته هو الّذي يعيشُ في مواجهة مع حكّام البلاد، ورغمًا عن أنوفهم:
لأبي الّذي ولد في سفح الجبل
ونظر إلى البحيرة، لم يكن أبدًا
جوازُ سفر. ولا حتّى تصريح عبور.
لقد تخطّى الجبال، حينما
لم تجرِ الحدود في النّهر.
لأبي لم يكن في الدّنيا
جوازُ سفر، ليسَ لأنّه
بلا أرضٍ أو بصمات، بل
لأنّ الأرض سكنت باطمئنان
في راحتيه. ومثلما لم تهرب
الأرض من راحتيه، وتمضي إلى
ما وراء البحار،
أبي- أيضًا. (ص 52)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حنان حيفر: هو باحث وناقد إسرائيلي بدرجة بروفيسور في موضوع الأدب العبري في الجامعة العبرية في القدس. نُشرت المقالة العبريّة في ملحق كتب لصحيفة “هآرتس”، 3 مارس 2004.
عن المجموعة الشّعريّة العبريّة للشّاعر سلمان مصالحة، إحاد مكان -In Place- والّتي صدرت عن دار النّشر عام عوڤيد، تل-أبيب 2004.
نقلاً عن العدد 25 من مجلّة "مشارف" الحيفاوية.
חנן חבר
לשון מתפצלת
ספר השירים "אחד מכאן", שכתב סלמאן מצאלחה, מחייב את קוראיו לחדד את הקשבתם אל השירים החודרים שבו, שכן הם דורשים חשיבה מחדש על השירה העברית, על אפשרויותיה ועל גבולותיה.